خطب الجمعة

=======

سؤال مهم؟

الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحصى كل شيءٍ علماً، كتب على هذه الدنيا الزوال والفناء، وتفرد بالدوام والبقاء، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو السميع البصير.

سبحانه لا عز إلا في طاعته، ولا فوز إلا في قربه، ولا غنى لنا عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اكتمل به عقد النبوة، فطوبى لمن والاه وتولاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الفضلاء: سؤال مهم يتطلب الإجابة عليه, وهو: هل لدى المؤمن وقت فراغ؟

وقبل الإجابة على السؤال نقف فنقول: إننا وللأسف الشديد نسمع بين الحين والآخر من بعض الشباب من يقول لصاحبه وقرينه: تعال لنقضي وقت الفراغ، وسمعنا من يقول لخليله تعال نمشّي الوقت - أو نقتل الوقت - ونرى من يقضي أوقاتاً طويلة من عمره في اللعب والدعة والراحة، وسهر الليالي الطويلة في مشاهدة أومتابعة المباريات، قد سقط حاجباه على عينيه، من كثرة المشاهدة، منشغل البال، خفيف العقل، بخفة تلك الكرة التي تتحرك يميناً وشمالاً، وأمام وإلى الوراء.

ونرى كذلك من يقضي جل وقته في التسكع في الأسواق والطرقات، والتفحيط والتطعيس، والمغازلات والمعاكسات للبنات، ثم ما يضاف إلى ذلك من إضاعة الصلوات، وسائر الحقوق والواجبات.

ولذلك كان من المهم الإجابة عن ذلكم السؤال فنقول: إن المؤمن ليس في وقته وقت فراغ، يقضيه سبهللاً لا إلى دنيا ولا إلى آخرة لأن الوقت في حياة المؤمن لا يقدر بثمن، فليس وقته كما يقال: من ذهب، وإنما وهو أغلى من ذلك بكثير، لأن وقته يعني حياته، كما قال الحسن يا بن إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك

فالليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، والسعيد من استطاع أن يقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو, والأمر أعجل من ذلك، والموفق من تزود لسفره، وإنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق، والليالي متجر الإنسان والأيام سوق 1.

وقد خاطب الله نبينا ونحن تبع له فقال - تعالى-: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } 2. أي فإذا فرغ من عبادة أقبل على الأخرى، وإذا فرغ من عمل أقبل على العمل الآخر، وهكذا.

حتى يصل بنا ذلك إلى الغاية التي يسعى لها كل مسلم وهي الجنة، بتحقق الوظيفة التي لأجلها خلق الجن والإنس، { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } 3. هذه الوظيفة التي لا ينبغي للإنسان أن يقضي وقته إلا فيها . عبادة ربه وخالقه ومولاه، وإلا كان الغبن والخسارة, قال قتادة بن خليد: المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال: مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة من أمر دنياه لا بأس بها.

وقد جاء في الحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ " 4. أي وربي لقد غبن كثير من الناس بعدم استغلالهم لفراغهم وصحتهم في طاعة ربهم.

إن الصحة والفراغ هي الأبواب التي تلج منها الشهوات، ويتربع في فنائها الهوى الجامح فيأتي على صاحبه بالعطب، وقد صدق من قال: من الفراغ تكون الصبوة. ورحم الله الشافعي إذ يقول:

إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة

والعاقل الموفق من أدرك حقيقة تلك النعم، فاغتنم عمره في علم نافع يحفظه، أو عمل مفيد يقوم به يحفظ له ولأمته الرفعة والتمكين، ويجعلها خير أمة أخرجت للناس إن من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثلة، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه؛ فقد عق يومه، وظلم نفسه وظلمه...

ولهذا حرص الموفقون على الاستفادة من كل دقيقة وثانية من حياتهم؛ بالعمل الصالح، وعدوا ذلك مغنماً.. وعلموا أن ضياعها بدون فائدة مغرماً..

قال عمر بن ذر.. قرأت كتاب سعيد بن جبير إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة.. وهذا المغنم هو حصيلة أعمال صالحة قدمت.. صلاة وصيام وتسبيح وغيره5.

أيها المؤمن: إن من علامة إعراض الله عنك أن يجعلك تشغل فيما لا يعنيك خذلاناً من الله - عز وجل - لك.

وانظر إلى حال بعض الموفقين كيف استفادوا من أوقاتهم واستغلوه فيما يرضي خالقهم، فقد قيل أن الإمام الشافعي كان يجزأ ليله إلى ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام. وأمثاله كثير.

أخي المسلم: إنه ينبغي عليك أن تتخذ من مرور الساعات والدقائق والليالي والأيام عبرة لنفسك، فإن مرور الساعات والدقائق والليالي والأيام؛ كما قال الشاعر:

أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومرُّ العشي

إذا ليلة أهرمت يومها أتى بعد ذلك يومٌ فتى

إن مضي الزمن واختلاف الليل والنهار لا يجوز أن يمر بالمؤمن وهو في ذهول عن الاعتبار به، والتفكر فيه، ففي كل يوم يمر، بل في كل ساعة تمضي، بل في كل لحظة تنقضي، تقع في الكون والحياة أحداث شتى، منها ما يرى وما لا يرى، ومنها ما يعلم ومنها ما لا يعلم.. فمن أرض تحيا، وحبة تنبث، ونبات يزهر، وزهر يثمر، وتمر يقطف، وزرع يصبح هشيماً تذروه الرياح، أو من جنين يتكون، وطفل يولد، ووليد يشيب، وشيخ يتكهل، وكهل يشيخ، وشيخ يموت...6 إلى غير ذلك.

إذا كنت في الأمس أسأت فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميد

ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غد لعل غداً يأتي وأنت فقيد

ويومك إن عاتبته عاد نفعاً إليك وما ضُحى الأمس ليس يعود

وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يشغلك عن الله - تعالى- أحد فافعل.

أيها الشاب: إن زمن الشباب زمن الصحة والقوة.. الحركة سريعة، والوثبة قوية، والحواس مكتملة... ماذا قدمت في هذا الوقت؟ وهي صحة لن تعود، ونشاط لن يبقى، وحواس تنقص..

كانت صفية بنت سيرين توصي فتقول.. يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب؛ فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.

إن الشباب حجة التصابي روائح الجنة في الشباب

بعض الشباب يرى أن لديه وقت فراغ ... وساعات لا يحتاج إليها.. ويبرر لنفسه بما يشاء.. خرج القاضي شريح على قوم من الحاكة في يوم عيد وهم يلعبون، فقال: ما لكم تعلبون؟ قالوا: تفرغنا!! قال: أو بهذا أمر الفارغ، وتلا قوله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } 7 .8

أيها الشباب: إن الشباب أمثالكم في عهود الإسلام الأولى كان يشغلهم معالي الأمور، وكيف ينصرون دينهم، ويبلغون دعوة نبيهم؛ فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه يقود جيشاً عرمرماً، وفي الجيش كبار الصحابة، وتحت إمرته أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وغيره من كبار الصحابة، وكان لا يتجاوز عمره حينها العشرين عاماً. وعلى بن أبى طالب رضي الله عنه كان يصول ويجول في ساحات القتال، يقاتل الأشداء من الكفار مبارزة.

وابنا عفراء يتصديان لقتل فرعون هذه الأمة أبا جهل؛ واسمع إلى قصتهما العجيبة؛ فعن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت : نعم، ما حاجتك إليه يا بن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منّا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا وإن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيها فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: " أيكما قتله ؟" قال كل واحد منهما أن قتلته، فقال : " هل مسحتما سيفكما ؟" قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: " كلا كما قتله" 9 . وابن عباس ترجمان القرآن؛ كان مرجعية علمية وآية في الفهم والحفظ على صغر سنه.

كرر عليّ حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: إنني أحذر نفسي وإياكم من آفات الوقت القاتلة، والتي منها:

أولاً: الغفلة؛ فإن الله تعالى قد حذرنا من الغفلة أشد التحذير، حتى إنه جعل أهلها أضل من الأنعام سبيلاً، بل جعلهم حطب جهنم وساءت، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } 10 .

وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من أن يطيع أو يسمع للغافلين؛ كما في قوله تعالى: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } 11.

أرشد سبحانه وتعالى إلى علاج من هذه الآفة؛ في قوله سبحانه: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } 12 .

ثانياً: التسويف وهو من آفات الوقت القاتلة، حيث تتنقل بالإنسان في أعماله من وقت لوقت ومن زمان لزمان ومن مكان لمكان، حتى ينقطع وهو لا أظهر أبقى وعمل قضى، لا سيما الأعمال التي تقربه من الله خالقه ومولاه، فكم نسمع بعض الناس إذا نصحوا أو وجهوا أو أمروا بما ينفعهم، يقولون : سوف نتوب، وسوف نعمل،... وأقول: احذروا - بارك الله فيكم - من سوف؛ فإنها جندي من جنود إبليس، وكما قيل: سوف تسلف، وذلك حين لا يجدي التسلف، قال الله تعالى: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } 13 .


ومن الذي يضمن لك أيها المسوف المؤخر لعملك اليوم غدٍا وأنه لك لا عليك؛ وأنك ستعيش إلى غد، وأنَّ الموت لن يأتيك بغتة، { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } 14 { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } 15.

تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر

وكم من فتى يمسي ويصبح آمناً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

ثم إن لكل يوم عمله، ولكل وقت واجباته، فليس هناك مجال للتسويف، ولما قيل لعمر بن عبد العزيز، وقد بدا عليه الإرهاق من كثرة العمل: أخر هذا إلى الغد. فقال: لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عليّ عمل يومين؟!

وقال الحسن البصري رحمه الله: إياك والتسويف، فإنك بيومك، ولست بغدك، فإن يكن غد لك، فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم.

وكتب محمد بن سمرة السائح إلى يوسف بن أسباط يقول: أي أخي! إياك وتأمير التسويف على نفسك، وإمكانه من قلبك، إنه محل الكلال، وموئل التلف، وبه تقطع الآمال، وفيه تنقطع الأجيال، فإنك إن فعلت ذلك أدلته من عزمك، وهواك عليه فعلاً، واسترجعا من بدنك من السآمة ما قد ولى عنك، فعند مراجعته إياك لا تنفع نفسك من بدنك بنافعة، وبادر يا أخي فإنك مبادرٌ بك، وأسرع فإنك مسروع بك، وجد فإن الأمر جد، وتيقظ من رقدتك، وانتبه من غفلتك، ونذكر ما أسلفت وقصرت، وفرطت وجنيت وعملت، فإنه مثبت محصى، فكأنك بالأمر قد بغتك، وأعطيت بما قدمت، أو ندمت على ما فرطت.

فالله الله - عباد الله - في الحفاظ على الأوقات واستغلالها فيما يرضي رب الأرض والسماوات، والحذر والحذر من الغفلات، وتأخير الطاعات والتسويف في فعل الخيرات؛ وإضاعة الأوقات فيما يسخط عالم السر والخفيات. وما يسبب لكم الفوات أو للنفس اعتياد المنكرات، وكما قيل:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

واعلموا أن العمل مهمة الإنسان الحي، فالذي لا يعمل لا يستحق الحياة، بل هو ميت، وكل عمل ابن آدم عليه إلا عمل الآخرة وما يقرب إلى الله - عز وجل -، فإنه له يضاعف له الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف كثيرة، ولا يمنع ذلك من أن يعمل الإنسان لدنياه، وما يعينه في مسيره إلى الآخرة، لكن يعمل للدنيا، وشعاره: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيننا على أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعصمنا من كل سوء ومكروه، وأن يعنا على استغلال أوقات عمرنا فيما يرضيه لنا، إنه جواد كريم..

اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الكفرة والملحدين، واجعل كلمة هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا وأتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.

________________________________________

1- ابتصرف من الوقت انفاس لا تعود صـ ( 16- 17 ).

2 - سورة الشرح (7 - 8).

3 - سورة الذاريات (56).

4 - رواه البخاري ومسلم.

5- الوقت أنفاس لا تعود لعبد الملك القاسم صـ ( 13- 15) .

6- الوقت أنفاس لا تعود لعبد الملك القاسم صـ ( 21-22 ). نقلاً عن الوقت للقرضاوي.

7 - سورة الشرح (7) (8).

8- الوقت أنفاس لا تعود لعبد الملك القاسم صـ ( 30-31) .

9 - رواه البخاري ومسلم.

10 - سورة الأعراف(179).

11 - سورة الكهف(28) .

12 - سورة الأعراف(205).

13 - سورة الشعراء (88) (89) .

14 - سورة الأنعام (47).

15 - سورة الأعراف(34).

==============

سترة المصلي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فإنَّ السترة مشروعةٌ للمُصلِّي1، فينبغي للمسلم أن يصل إليها، ويدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقف قريباً من السترة، فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع2 و وبين موضع سجوده والجدار ممر شاة3.

وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: " لا تصل إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله؛ فإن معه القرين"4، وقال: " إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"5. وكان -أحياناً- يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي في مسجده6.

وفي صحيح مسلم،قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل7؛ فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك".

فليس على المصلي وزر إذا كان قد احتاط، فاتخذ سترة أمامه، ويحق له عند ذلك أن يدفع المار بين يديه، ففي "الصحيحين" أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره، وليدرأ ما استطاع، فإن أبى، فليقاتله، فإنما هو شيطان".

وقد حذَّر الرسول من المرور بين يدي المصلي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه"8.

وعن ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس بمنى فمررت بين يدي الصف فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد9.

ومن هذه الأحاديث نستخلص:

1- أن على الداخل إلى المسجد إذا أراد الصلاة منفرداً كان أو إماماً أن يبادر إلى جدار أو عمود من أعمدة المسجد، أو يضع شيئاً فيصلي إليه، وقد رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلاً يصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صلِّ إليه10، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يبتدرون السواري11، أي يصلون خلفها؛ ليجعلوها سترة لهم12.

2- السترة تكون في المسجد، وفي الفضاء للإمام والمنفرد، وأن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثنية أذاخر فحضرت الصلاة فصلى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه13.

3- لا تختص السترة بغير المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بل تشملهما كذلك، قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في "حجة النبي"ص 23: وأحاديث السترة لا تختص بسجد دون مسجد، ولا بمكان دون مكان، فهي تشمل المسجد الحرام، والمسجد النبوي من باب أولى، لأن هذه الأحاديث؛ إنما قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجده، فهو المراد بها أصالة، والمساجد الأخرى تبعاً، والأثران المذكوران -أي عن أنس، وعن ابن عمر- نصان صريحان على أن المسجد الحرام داخل في تلك الأحاديث.

وعليه فلا يتساهل البعض في أمر السترة في هذين المسجدين، إن أمكنه أن يصلي إليها، وكذلك لا يتساهل المار بين يدي المصلي فيهما وهو يجد مندوحة عن المرور بين يديه...

4- إن أراد أحد المرور بين يدي المصلي فله منعه في قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وسالم، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي قال في المغني: "ولا أعلم فيه خلافاً" 14

ثم هل المنع و" الْمُقَاتَلَةُ لِخَلَلٍ يَقَعُ فِي صَلاةِ الْمُصَلِّي مِنْ الْمُرُورِ، أَوْ لِدَفْعِ الإِثْم عَنْ الْمَارِّ ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي. وقيل: بَلْ الأَوَّل أَظْهَرُ، لأَنَّ إِقْبَالَ الْمُصَلِّي عَلَى صَلاتِهِ أَوْلَى لَهُ مِنْ اِشْتِغَالِهِ بِدَفْع الإِثْم عَنْ غَيْرِهِ".15

وهل يستحب دفع المار بين يدي المصلي أم يجب؟ قيل يستحب وقيل يجب: قَالَ النَّوَوِيّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِوُجُوبِ هَذَا الدَّفْعِ، بَلْ صَرَّحَ أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ مَنْدُوب. اِنْتَهَى. وَقَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِهِ أَهَّلُ الظَّاهِرِ، فَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يُرَاجِعْ كَلامَهُمْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلافِهِمْ 16. وهو مروي كذلك عن الإمام أحمد رحمه الله.

5- يشرع دفع المار ولو لم يكن هناك مسلك غَيْرُ الذي يريد المرور منه. يؤيد ذلك ما رواه البخاري من حديث أبي صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى فنال من أبي سعيد ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان"

6- حكم المار بين يدي المصلي كحكم العدو الصائل يدفع بما يرده، فقَوْله : فَلْيُقَاتِلْهُ " أَيْ يَزِيدُ فِي دَفْعِهِ الثَّانِي أَشَدّ مِنْ الْأَوَّلِ".... "وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ، لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الْإِقْبَال عَلَى الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا وَالْخُشُوعِ فِيهَا ا.ه. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ حَقِيقَة وَاسْتَبْعَدَ اِبْن الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ فِي " الْقَبَسِ " وَقَالَ : الْمُرَادُ بِالْمُقَاتَلَةِ الْمُدَافَعَةِ. وَأَغْرَبَ الْبَاجِيُّ فَقَالَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَاد بِالْمُقَاتَلَةِ اللَّعْن أَوْ التَّعْنِيف. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُبْطِل، بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْيَسِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ يَلْعَنُهُ دَاعِيًا لَا مُخَاطِبًا، لَكِنَّ فِعْلَ الصَّحَابِيِّ يُخَالِفُهُ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْمُرَادِ..."17

قال في الفتح: وصَرَّحَ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا : يَرُدُّهُ بِأَسْهَلِ الْوُجُوه ُ فَإِنْ أَبَى فَبِأَشَدَّ، وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ. فَلَوْ قَتَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ لَهُ مُقَاتَلَتَهُ، وَالْمُقَاتَلَةَ الْمُبَاحَةَ لَا ضَمَانَ فِيهَا. وَنَقَلَ عِيَاض وَغَيْره أَنَّ عِنْدَهُمْ خِلَافًا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

7- لا يجوز للمصلي المشي من مكانه ليدفعه، ونقل في ذلك الاتفاق، قال في الفتح: " وَنَقَلَ اِبْن بَطَّال وَغَيْره الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ الْمَشْيُ مِنْ مَكَانه لِيَدْفَعَهُ، وَلا الْعَمَل الْكَثِير فِي مُدَافَعَتِهِ، لأَنَّ ذَلِكَ أَشَدّ فِي الصَّلاةِ مِنْ الْمُرُورِ"18.

8- وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَرَّ وَلَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِعَادَةً لِلْمُرُورِ، وَرَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا رَدَّهُ فَامْتَنَعَ وَتَمَادَى، لَا حَيْثُ يُقَصِّرُ الْمُصَلِّي فِي الرَّدِّ.19

9- المرور بين يدي المصلي ينقص أجر الصلاة ولا يبطلها: "وَقَدْ رَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن مَسْعُود " أَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَقْطَعُ نِصْفَ صَلَاتِهِ " وَرَوَى أَبُو نُعَيْم عَنْ عُمَرَ " لَوْ يَعْلَمُ الْمُصَلِّي مَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا صَلَّى إِلَّا إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ". فَهَذَانِ الْأَثَرَانِ مُقْتَضَاهُمَا أَنَّ الدَّفْعَ لِخَلَلٍ يَتَعَلَّقُ بِصَلَاةِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَارِّ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مَوْقُوفَيْنِ لَفْظًا فَحُكْمُهُمَا حُكْم الرَّفْعِ، لِأَنَّ مِثْلَهُمَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْي.

هذا والله نسأل أن يوفقنا للخير، وأن يجنبنا الضير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

_________________________ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة